دور النيابة العامة في حماية العقار أثناء مسطرة التحفيظ العقاري

المبحث الأول:  دور النيابة العامة في المرحلة الإدارية 

   إن مسطرة التحفيظ مسطرة إدارية في الأصل بحيث تبتدئ بتقديم مطلب التحفيظ لدى المحافظة العقارية، وتنتهي بتأسيس المحافظ للرسم العقاري بعد استنفاذه لمختلف الإجراءات المسطرية المنصوص عليها في ظهير التحفيظ العقاري.[6] لكن قد تتخلل هذه المسطرة الإدارية مرحلة قضائية وذلك في حالة تسجيل تعرضات على مطلب التحفيظ بحيث يقوم المحافظ بإحالة ملف التعرضات على القضاء إذا تعذر عليه إجراء الصلح بين الأطراف، إلا أن هذه الحالة ليست بالوحيدة التي بمقتضاها يتدخل القضاء في مسطرة التحفيظ،

بل هناك حالات يتدخل فيها رغم بقاء المسطرة إدارية، ويتعلق الأمر بتدخل جهاز النيابة العامة في مسطرة التحفيظ من خلال تدخلها في مسطرة التبليغ ودورها الهام في تنظيم عملية التحديد، وذلك من أجل حفظ الحقوق لذويه وتوفير حماية لهم ولحقهم من الضياع، وكذلك من أجل ضمان الاستقرار الاجتماعي وحفظ النظام العام وتجنب تعطيل مرفق المحافظة العقارية من قيامها بمهامها في أجواء وظروف هادئة، كما تتدخل أيضا من ناحية أخرى خلال مسطرة التحفيظ العقاري باعتبارها جهة إدارية من خلال تسييرها لمكتب المساعدة القضائية المنظم بمقتضى المرسوم الملكي لسنة 1966[7].

وبناء على ما سبق سنحاول تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، بحيث نتناول “دور النيابة العامة الحمائي في مسطرة التحفيظ” في (المطلب الأول) في حين نخصص (المطلب الثاني) لدورها في تسيير مكتب المساعدة القضائية. 

المطلب الأول: دور النيابة العامة الحمائي في مسطرة التحفيظ 

   مكن المشرع “جهاز النيابة العامة” بصلاحية مباشرة مجموعة من الأدوار خلال مسطرة التحفيظ، والتي تجد أساسها القانوني في ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بالقانون 07-14، وكذا في القرار الوزاري المتعلق بتطبيق نظام التحفيظ العقاري الصادر بتاريخ 3 يونيو 1915، وفي قانون المسطرة المدنية.[8]

ولعل أهم هذه الأدوار دورها الإداري خلال المرحلة الإدارية لمسطرة التحفيظ العقاري والذي يتميز بكونه دور حمائي بالدرجة الأولى بحيث منح المشرع لمكتب النيابة العامة صلاحية التدخل في مسطرة التبليغ المتعلقة بمسطرة التحفيظ، فهو موطن لمن لا موطن له (الفقرة الأولى) هذا وأوكل لها مهمة حماية حقوق الأغيار، بما في ذلك تقديم التعرض على مطلب التحفيظ نيابة عن بعض الأشخاص المحددين على سبيل الحصر من قبل المشرع في ظهير التحفيظ العقاري بصيغته الجديدة وكذا تقييد حقوقهم بالسجلات العقارية (الفقرة الثانية). كما أن هذا الدور يتجسد كذلك في حماية وتنظيم عملية التحديد الهندسي التي يقوم بها المهندس المساح الطبوغرافي المنتدب خلال مسطرة التحفيظ، وهذا ما سنتحدث بصدده في الفقرة الثالثة. 

الفقرة الأولى: تدخل النيابة العامة في مجال التبليغ 

   يعتبر التبليغ إلى الشخص من أهم الضمانات التي قد تتحقق معها علة الإجراء، إذ يكون الأمر أقرب لليقين منه للشك وبالتالي تمكينه من اتخاذ المبادرة لمناقشة مطالب ودفوعات الطرف المقابل[9]، وإجراء التبليغ هو بمثابة إعمال لمبدأ المواجهة، الذي يقوم على عدم جواز اتخاذ أي إجراء ضد شخص دون تمكينه من العلم به وإعطائه الفرصة للدفاع عن نفسه، وبهذا المعنى يصبح هذا الإجراء تطبيق من تطبيقات حق الدفاع.[10]

  ويتكون هذا الإجراء من 3 عناصر جوهرية، عنصر الأشخاص المبلغ إليهم، وعنصر الآجال التي يتم فيها التبليغ، بالإضافة إلى عنصر المكان الذي يجب أن يتم فيه التبليغ.[11] ومن بين هذه الأمكنة التي يجوز التبليغ إليها نجد الموطن المختار الذي يعينه الشخص[12] وبالرجوع إلى ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07-14 نجد أن المشرع ألزم طالب التحفيظ، وكذا المتدخلين في مسطرة التحفيظ أو في مسطرة التقييد بالرسوم العقارية اختيار موطن للمخابرة (أولا) وإلا يلزمون تلقائيا بمقر النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية التي يقع بدائرتها العقار كموطن قانوني للمخابرة (ثانيا). 

أولا: اختيار المتدخلين في مسطرة التحفيظ موطن المخابرة 

  بالرجوع إلى المقتضيات القانونية المنظمة للتحفيظ العقاري نجد أن المشرع ألزم طالب التحفيظ أن يقدم تصريحا للمحافظ على الأملاك العقارية يتضمن مجموعة من البيانات المتعلقة بالعقار المراد تحفيظه، ومن جملة هذه البيانات نجد تعيين عنوان أو موطن مختار في الدائرة الترابية التابعة لنفوذ المحافظة العقارية الموجود بها الملك إذا لم يكن لطالب التحفيظ محل إقامة في هذه الدائرة[13]. كما يجب على كل شخص يرغب في التدخل في مسطرة التحفيظ طبقا للفصل 84 وكل متعرض أو طالب تقييد لحق في الرسم العقاري أن يعين محلا بمركز إدارة المحافظة العقارية للمخابرة معه إذا كان محل إقامته الحقيقي خارجا عن منطقة الإدارة.[14] وعليه فإذا كان الأصل في اتخاذ الموطن المختار هو أمر اختياري ، وخاضع لإرادة الشخص فإنه استثناء ألزمه القانون بذلك في حالات خاصة، وبنصوص خاصة صريحة، كما هو الشأن في ظهير التحفيظ العقاري وفي القرار الوزيري لسنة 1915.[15]

 وتتجلى أهمية محل المخابرة في مسطرة التحفيظ في تلك العناية اللازمة التي أولاها المشرع لطلبات التحفيظ والتعرض والتقييد والتتبع الدقيق لها من طرف المحافظ العقاري والتي تقتضي تدخل أصحابها كلما دعت الضرورة لذلك، حيث يتم تبليغ طالب التحفيظ كل المراسلات والإنذارات التي قد يقتضيها تنفيذ إجراءات مسطرة التحفيظ، مما يساهم في تأمين حسن سير إجراءاتها والمضي بها قدما إلى غاية تأسيس رسم عقاري نهائي وغير قابل للطعن.[16]

    كما يساهم التبليغ أيضا في تحيين الرسوم العقارية ومطابقتها مع الأوضاع المادية للعقارات والمراكز القانونية ولأصحاب الحقوق العينية المترتبة عليها[17] وهذا ما جعل المشرع يولي عناية خاصة لموطن المخابرة، بحيث خصص له ثلاث فصول[18]، ثم أعاد التأكد عليه وحث على تفصيله من خلال التعليمات الصادرة عن الصدر الأعظم في شأن الضابط العقاري المتعلق بالتقييد.[19]

ثانيا: النيابة العامة كموطن لمن لا موطن له. 

  إذا كان المشرع من خلال الفصل 26 من القرار الوزيري قد ألزم كل متدخل في مسطرة التحفيظ سواء كان طالب التحفيظ أو متعرض بأن يحدد موطن المخابرة تابع لنفوذ المحافظة العقارية التي يوجد بها العقار موضوع مسطرة التحفيظ، فإنه اعتبر في مقابل ذلك أنه في حالة عدم تحديد هذا الموطن اعتبرت جميع المراسلات والتبليغات صحيحة، ومرتبة لكافة آثارها القانونية بمجرد وصولها إلى النيابة العامة التابع لها موقع العقار.[20] فالنيابة موطن من لا موطن له.[21]

   وعلى المستوى العملي درجت الممارسة الإدارية لبعض المحافظات العقارية على توجيه مراسلات إلى النيابة العامة، من خلالها تخبر وكيل الملك بأن المحافظ على الأملاك العقارية قد راسل المعني بالأمر ولم تتمكن من ربط الاتصال به رغم شتى المحاولات، مشيرا في معرض الفقرة الأخيرة من الرسالة إلى أنه في حالة عدم متابعة المعنيين بالأمر لإجراءات مسطرة التحفيظ داخل الأجل المحدد في الرسالة، فإنه سيتم إلغاء المطلب طبقا لمقتضيات الفصل 50 من ظهير التحفيظ العقاري.[22]

   لذلك وبناء على ما سبق يتبين لنا أن الواقع العملي داخل المحافظة ذهب إلى اعتبار مجرد التبليغ إلى النيابة العامة وإخبارها بتغيب وتعذر ربط الاتصال بالمعني بالأمر من أجل مواصلة إجراءات التحفيظ كاف لاتخاذ المحافظ على الأملاك العقارية القرار المناسب في شأن المطلب خاصة بعد انصرام الأجل المحدد في الرسالة دون جواب من طرف النيابة العامة، وكأن مجرد التبليغ، إلى النيابة العامة كاف لمواصلةالإجراءات المسطرية، معتقدين أن الهدف من توجيه الإنذار إلى النيابة العامة هو إشعارها وإعلامها بما سيقدم عليه المحافظ من إجراءات دون حاجة إلى قيام النيابة العامة بتبليغ الإنذار إلى المعني بالأمر[23]، متشبثين بحرفية نص الفصل “26 الذي جاء فيه ” …إن الإعلامات والتنبيهات الموجهة إليه تعد صحيحة بمجرد تسليمها لمكتب النيابة العامة”. 

   وهو ما جعل أحد الباحثين[24] يعتبر أن التفسير الذي أعطي للفصل 26 السالف الذكر من طرف المحافظين هو تفسير خاطئ، لأن غاية المشرع من تبليغ النيابة العامة هو قيامها بما لديها من وسائل للبحث عن الشخص المعني بالرسالة المبلغة إليها وإفادة المحافظ بنتيجة البحث فإذا لم يتم العثور عليه تولت النيابة العامة الدفاع عن مصالحه وأذنت للمحافظ على الأملاك العقارية بمتابعة المسطرة وفق ما يراه مناسبا. 

  ويتبين أن هذا التوجه الذي سار فيه الباحث هو توجه منطقي على اعتبار أن هذا الفهم الضيق الذي أعطي للفصل 26 من طرفالمحافظين هو فهم غير سليم، خاصة عندما تم ربطه بأجل محدد[25] تحت طائلة إلغاء المطلب أو التعرض في حالة انصرام الأجل دون العثور على المعني بالأمر، خاصة إذا علمنا أن النيابة العامة وبعد توصلها بهذه الإرساليات من طرف المحافظ على الأملاك العقارية والمتعلقة بتبليغها إلى المعني بالأمر في إطار الفصل 26 محل الدراسة، فإنها تقوم بعدة إجراءات مسطرية للوصول إلى النتيجة النهائية[26] وهذه الإجراءات قد تستغرق أكثر من الآجال المحددة في المراسلة، لذلك ليس من المنطقي بعد انتهاء النيابة العامة من إجراءات البحث والوصول إلى النتيجة تفاجئ بكون المحافظ على الأملاك العقارية قد اتخذ قراره بإلغاء مطلب التحفيظ، أو إلغاء التعرض

ثم إنه ومن جهة ثانية

حتى لو افترضنا أن جواب النيابة العامة كان سلبيا بحيث لم يتم العثور عن المعني بالأمر، ففي هذه الحالة فإن النيابة العامة هي من تتولى الدفاع عن مصالح المتغيب طالما أن المشرع أعطى الصلاحية لوكيل الملك بأن يتدخل في مسطرة التحفيظ العقاري للدفاع عن حقوق الغائبين وغير الحاضرين.[27]

    لذلك يمكن القول بأنه إذا كان المشرع قد جعل مقر النيابة العامة محلا للمخابرات لمن لا موطن له، فإن الهدف من هذا المقتضى هو صيانة حقوق هؤلاء الأشخاص الذين أغفلوا تعيين محلا للمخابرة من الفقدان والضياع وهو الأمر الذي لن يتحقق إذا أعطى للفصل 26 هذا التفسير الضيق وإقرانه بآجال محددة تحت طائلة إلغاء الحق المطالب به. 

تابع قراءة المقال في الصفحة الموالية

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6الصفحة التالية
زر الذهاب إلى الأعلى