التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي

التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي

التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي

التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة

مقـــدمـــة:

” إن أسوء القوانين هي تلك التي تصاغ في وقت الارتباك “؛ مقولة لمارك آنسل قالها منذ زمن ليس بالقصير، غير أن صداها لا يزال مدويا إلى اليوم، وقد ثبت بالتجربة صدق ما جاء فيها، فالقوانين التي صنعت إثر أزمات شهدتها المجتمعات المختلفة تأكد بالملموس قصورها التشريعي وعجزها القانوني عن ضبط واحتواء مرحلة ما بعد هذه الأزمات، حيث صيغت للتصدي لوقائع مضطربة بقوانين جاءت أكثر ارتجالا واضطرابا، فكانت النتيجة، انتهاك للحرمات واعتداء على الحريات.

غير أن التشريع الجنائي مهما علا شأنه ولامست قواعده الدقة في الصياغة والتوفيق في المضمون، يبقى صنيعا من فعل البشر، أبعد ما يكون عن الكمال، الأمر الذي يفسر التغييرات المتلاحقة والتعديلات المتتالية التي تخضع لها المدونات والمساطر القانونية بين كل حين وحين، والمسطرة الجنائية المغربية[1] لم تكن لتشكل استثناء عن هذه القاعدة، إذ جاءت في أعقاب إلغاء قانون المسطرة الجنائية الصادر بتاريخ 10 فبراير 1959 الذي عمرّ أزيد من أربعين عاما، وقد حاولت في ديباجتها أن تجيب عن أسباب نزولها فأوضحت أن ” الممارسة اليومية، كشفت عن وجود ثغرات ومشاكل مرتبطة بالنصوص القانونية أو بالواقع الاجتماعي ينبغي التصدي لها، وتقديم حلول وأجوبة لما تطرحه من اشكاليات. كما أن مصادقة المملكة المغربية على جملة من المواثيق والاتفاقيات الدولية أصبحت تفرض تدخل المشرع من أجل ملائمة قانونه مع التوجه العالمي، يضاف إلى ذلك الطفرة الكبرى التي عرفها مجال حقوق الإنسان ببلادنا، والحرص على صيانة هذه الحقوق وحماية الحريات الفردية والجماعية، وبناء دولة الحق والقانون “.

إلا أن غاية المشرع الحقيقية من وراء إصدار القوانين لا تنحصر فقط في حماية حق الأفراد في ممارسة حقوقهم وحرياتهم بصورة آمنة والحيلولة دون تعريض هذه الحقوق للمساس والانتهاك، وإنما تتجلى وبالأساس في حماية المصالح العامة للمجتمع، والحيلولة كذلك دون تعريضها لخطر العبث أو الاضطراب[2]، وهو ما عبر عنه المشرع الجنائي صراحة في نفس ديباجة قانون المسطرة الجنائية الحالي قائلا ” وعلى العموم فقد كان هاجس توفير ظروف المحاكمة العادلة وفقاً للنمط المتعارف عليه عالمياً و احترام حقوق الأفراد وصون حرياتهم من جهة، والحفاظ على المصلحة العامة والنظام العام من جهة أخرى، عناصر أساسية شكلت نقطة مركزية أثناء إعادة النظر في قانون المسطرة الجنائية الصادر سنة 1959 “.

وعموما فإن القوانين المتعلقة بالمسطرة والإجراءات الجنائية تعد من أدق القوانين في حياة الدولة القانونية[3]، إذ يكون على مشرعنا الجنائي تحقيق التوازن بين مصلحتين متعارضتين : هما المصلحة العامة من خلال تحقيق عدالة جنائية فعالة، والمصلحة الخاصة المتمثلة في صون كرامة الإنسان والحفاظ على حقوقه وحرياته، وهما مصلحتان كثيرا ما تتواجدان على المحك لحدوث توتر وتعارض مستمر بينهما، إذ أن الكثير من الإجراءات الجنائية تتولى تعطيل ممارسة بعض الحقوق الأساسية للأفراد، والتي تأتي على رأسها القواعد الجنائية المتعلقة بضبط الأشخاص والاحتفاظ بهم رهن الحراسة النظرية وإجراءات التفتيش والحجز[4]، وهي في مجملها تدابير يكون لها انعكاس مباشر على حقوق الأفراد وحرياتهم، وأن من شأن انفاذها خارج إطار القوانين المعمول بها انتهاك هذه الحقوق وضربها في الصميم.

والبحث التمهيدي بوصفه تلك المرحلة التي يتم فيها التثبت من وقوع الجرائم، وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها[5]، يعد أكثر المراحل التي تتقاطع فيها مصلحة المجتمع في زجر مرتكبي الجرائم، ومصلحة الفرد في انتهاك حريته وكرامته الإنسانية، وقد عالجها مشرع المسطرة الجنائية المغربية في القسم الثاني من الكتاب الأول المتعلق بالتحري عن الجرائم ومعاينتها، وعنونها بإجراءات البحث التي توزعت على سبعة وعشرين مادة، تم تعديلها مرتين منذ صدورها في 3 أكتوبر 2002، حيث عدلت المواد 59 و 62 و 66 و 79 و 80 بمقتضى القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الارهاب[6]، ثم تم تعديل الفصلين 57 و 66 بمقتضى القانون رقم 35.11 الصادر بتاريخ 27 أكتوبر 2011[7]،

وهي تعديلات أملتها تغيرات إجتماعية جديدة فرضت على المشرع التدخل بنوع من الصرامة إبان مرحلة البحث التمهيدي للتصدي للجرائم الإرهابية، حيث شكلت هذه التعديلات انتصارا واضحا لمصلحة المجتمع في الحفاظ على أمنه واستقراره، وجاءت بعد أقل من سنة من صدور قانون المسطرة الجنائية الذي شكل طفرة نحو إرساء مبادئ المحاكمة العادلة كما هي متعارف عليها دوليا، وبين الحفاظ على المصلحة العامة دون المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، وفي هذا تكمن أهمية هذا الموضوع الذي يطرح اشكالية تقييم المدى الذي بلغته مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بإجراءات البحث في إحداث نوع من التوازن بين المصلحتين العامة والخاصة عند تنظيمها لقواعد التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها؟

ولأجل تسيط الضوء على هذا الموضوع، ارتأينا تناوله في مبحثين وفق التصميم التالي :

المبحث الأول : التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي في حالة التلبس.

المبحث الثاني : التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي في الأحوال العادية.

المبحث الأول : التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي في حالة التلبس

 إن التعليق على مواد المسطرة الجنائية المتعلقة بالبحث التمهيدي في حالة التلبس، يقتضي إبداء مجموعة من الملاحظات حول صياغتها الشكلية (المطلب الأول)، ثم التطرق إلى أهم الملاحظات الموضوعية التي تثيرها هذه المواد (المطلب الثاني).

المطلب الأول : حول صياغة المواد المتعلقة بالبحث التمهيدي في حالة التلبس

لقد خصص مشرع المسطرة الجنائية المغربي المواد من 56 إلى 77 للبحث التمهيدي في حالة التلبس[8]، وخول فيها لضابط الشرطة القضائية صلاحيات هامة قوامها الصرامة والسرعة والفاعلية التي تتطلبها توفر حالة التلبس بالجريمة[9]، وهي صلاحيات قد تتقاطع في كثير من الأحيان مع بعض أهم الحقوق والحريات التي تم تكريسها عالميا من طرف المنتظم الدولي لفائدة الأشخاص بشكل عام، فتنتقص منها أو تقيدها أو تنتهكها كالحق في الحرية وفي التنقل وفي حرمة المسكن، ومع ذلك تبقى أعمالا مشروعة بوشرت تحت مظلة القانون.

 ولما كان ما ذكر حال مضامين هذه المواد، فإنه كان حريا بالمشرع المغربي أن يتحرى الدقة في صياغتها والوضوح في معانيها والتسلسل المنطقي في إجراءاتها، والاقتصار على قواعد الشكل دون خلطها بقواعد الموضوع، ومراعاة التوازن في أحجامها وعدم المزج في المادة الواحدة بين تدابير مختلفة ومتباعدة من حيث طبيعتها وأحكامها، فهل تقيد مشرع المسطرة الجنائية المغربي في صياغته بهذه المعطيات ؟

إن أول ملاحظة قد تسجل على صياغة المواد المتعلقة بإجراءات البحث في حالة التلبس هو عدم توازنها من حيث أحجامها، بينما نجد بعض المواد لم يتجاوز فحواها السطرين (المادتين 64 و 69 من قانون المسطرة الجنائية مثلا)، نجد مواد أخرى تجاوز محتواها الصفحة الواحدة في ما يربو عن الأربعين سطرا (المادة 66 من نفس القانون).

وهو ما انعكس سلبا على صياغة هذه المواد الطويلة الحجم، خاصة تلك التي تم فيها دمج إجراءات متعددة لمجرد وجود قاسم مشترك بينها، رغم اختلافها من حيث الطبيعة القانونية كما هو الحال بالنسبة للمادة 66 التي تم فيها الجمع بين أحكام الحراسة النظرية وآجالها، وبين أحكام اتصال المحامي بموكله الموضوع رهن هذا التدبير، ثم إجراءات مسك سجل الحراسة النظرية، ودور النيابة العامة في مراقبة الوضع تحت الحراسة النظرية، وهو ما أدى إلى تضخم الإجراءات الواردة في هذه المادة فجاءت صياغتها مفتقدة إلى الوضوح الذي يتعين أن تتصف به القاعدة القانونية[10] ومشوبة ببعض الغموض والإبهام، إضافة إلى الركاكة في التعبير نتيجة تكرار بعض الجمل كعبارة ” وإذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية ” وكذا عبارة ” اتصال المحامي بموكله “، بشكل أضفى الكثير من الركاكة على التعبير، وكان حريا بالمشرع الجنائي بسط هذه الأحكام في أكثر من مادة أو في مواد مكررة لتفادي النواقص المذكورة، فالقواعد القانونية كلما صيغت في نصوص مقتضبة إلا وكانت أكثر وضوحا وأكثر فاعلية[11].

إن الجمع في القاعدة الجنائية الواحدة بين القاعدة والاستثناء فيها يعد نوعا من الصياغة غير الموفقة، باعتبارها تضفي نوعا من الانتقاص من أهميتها والاستهانة بمضمونها، وهو ما لم تسلم منه الصياغة التي اعتمدها المشرع الجنائي المغربي عند تنظيمه لبعض الاجراءات المتعلقة بالبحث في حالة التلبس، ونخص بالذكر المادة 62 من قانون المسطرة الجنائية والتي أورد في صدرها قاعدة عامة مفادها ” لا يمكن الشروع في تفتيش المنازل أو معاينتها قبل الساعة السادسة صباحا وبعد الساعة التاسعة ليلا “، لتتوالى بعد ذلك الاستثناءات التي تشد عن هذه القاعدة، بل إن التعديل الذي عرفته هذه المادة بمقتضي القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الارهاب لسنة 2003 شكل استثناء آخر للقاعدة القانونية العامة المذكورة أعلاه.

إن صياغة المواد 58 و 61 و 65 من قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بتغيير حالة أمكنة وقوع الجريمة، وإفشاء أسرار التفتيش، ومنع بعض الأشخاص من مغادرة مسرح الجريمة، اختار فيها المشرع استعارة الصياغة القانونية للقاعدة القانونية المتعلقة بالموضوع[12]، حيث نص فيها على شق التجريم وشق العقاب، والحال أن الأمر يتعلق بقاعدتين شكليتين متواجدتين في صميم قانون المسطرة الجنائية، وكان بإمكانه الإستهداء ببعض التشريعات القريبة من منظومتنا القانونية التي تفادت هذه النقيصة عبر إحالة النص المعاقب على قانون الموضوع الذي هو القانون الجنائي، كما هو الشأن بالنسبة لقانون الإجراءات الجنائية المصري في مادته 58 التي تقابلها المادة 61 من قانون المسطرة الجنائية المغربي، حيث جاء فيها ” كل من يكون قد وصل إلى علمه بسبب التفتيش معلومات عن الأشياء أو الأوراق المضبوطة، وأفضى بها إلى أي شخص غير ذي صفة أو انتفع بها بأي طريقة كانت، يعاقب بالعقوبات المقررة في المادة 310 من قانون العقوبات “[13].

إن المطلع على المواد التي نظم فيها المشرع الجنائي المغربي إجراءات البحث التلبسي، يلاحظ جمعه في باب واحد بين مسطرة البحث في حالة التلبس التي يباشرها عادة ضباط الشرطة القضائية في أعقاب وقوع جناية أو جنحة معاقب عليها بحبس، وبين مسطرة التلبس التي تباشرها النيابة العامة في شخص الوكيل العام للملك بالنسبة للجنايات، ووكيل الملك بالنسبة للجنح عقب مثول المشتبه بهم بارتكاب أفعال إجرامية أمامهما في إطار مسطرة التقديم (المادتين 73 و 74 من قانون المسطرة الجنائية)، وهو شيء لا نعتقد في صوابيته، وكان حريا بالمشرع الجنائي المغربي إفراد مكان خاص لمسطرة التلبس خارج الباب المتعلق بإجراءات البحث في حالة التلبس، حتى لا يلتبس على قارئ النصوص ودارسها والمشتغل بها بين الحالتين التي تنفرد كل واحدة بأحكام خاصة بها.

إن الصياغة التي جاءت بها مواد الباب الأول المتعلق بإجراءات البحث التلبسي تفتقد كذلك إلى التسلسل التراتبي، والتعاقب المنطقي للإجراءات، فالمشرع الجنائي المغربي في غير ما مرة ينص على الاجراء في نص متقدم من حيث التسلسل الرقمي ليعود في نص متأخر للتنصيص على نفس الإجراء أو إجراء مشابه، كان بالإمكان عبر ضمهما تفادي الإكثار من الفصول[14]، ففي الفقرة الرابعة المضافة بمقتضى تعديل 27 أكتوبر 2011 إلى المادة 57 من قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بأخذ البصمات والاستعانة بأهل الخبرة لانجاز المعاينات، نجد أن المشرع وفي المادة 64 بعدها يقرر أنه بإمكان ضابط الشرطة القضائية الاستعانة بالأشخاص المؤهلين لإجراء المعاينات، ونحن نعتقد أنه كان بالإمكان دمج الإجراءين في مادة واحدة تفاديا للتكرار والإكثار.

ونفس الشيء يقال بالنسبة للمادة 70 من قانون المسطرة الجنائية بشأن تطبيق مقتضيات البحث التمهيدي في حالة التلبس على الجنح المعاقب عليها بالحبس إذا كان يكفي دمجها في الفقرة الأولى من المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية، مثلا بشأن تحقق حالة التلبس وذلك بعبارة “تتحقق حالة التلبس بجناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس… ” فيظهر المعنى ويسلم المبنى.

المطلب الثاني : حول مضامين الفصول المتعلقة بالبحث التمهيدي في حالة التلبس

إن أهمية إجراءات البحث في حالة التلبس تتجلى أساس في بعض السلطات الاستثنائية التي خولها المشرع لضباط الشرطة القضائية في معرض قيامهم بالتثبت من وقوع الجرائم والبحث عن مرتكبيها، هذه السلطات التي قد تبلغ حد التعطيل أو التقليص من بعض الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد في حياتهم العادية، بشكل لا يخضع فيه ضابط الشرطة القضائية لأية مساءلة باعتباره يباشر هذه التدابير تحت ذريعة القانون، غير أن الوصول إلى الحقيقة ينبغي أن يكون مسبوقا بالمحافظة على حقوق الأفراد وحرياتهم، وأن أي إجراء ماس بهذه الحقوق لا ينبغي أن يباشر إلا إذا وجد نص صريح يبيحه في القانون[15].

 فهل يا ترى توفق المشرع المغربي وهو بصدد صياغة المواد المتعلقة بإجراءات البحث في حالة التلبس في تحقيق هذه المعادلة الصعبة من خلال ما ظهر من مضامينها في التطبيق العملي والاجتهاد القضائي ؟ إن الاحاطة بهذا الموضوع يقتضي معالجته في ثلاث فقرات.

الفقرة الأولى : في المواد المتعلقة بحالة التلبس والانتقال إلى مسرح الجريمة

 لا خلاف بين الفقه[16] والقضاء[17] في أن حالة التلبس هي ظرف عيني يلحق بالجريمة، لا بشخص مرتكبها، وأن الحالات الواردة في الفصل 56 من قانون المسطرة الجنائية جاءت على سبيل الحصر ولا يمكن التوسع فيها، على اعتبار أن قيام حالة التلبس ينشئ سلطات استثنائية لضباط الشرطة القضائية ما كان لهم أن يباشروها لولا تحققها، والقاعدة كما هو معروف أنه لا يجوز القياس على الاستثناء ليبقى التساؤل مشروعا حول متى تتحقق حالة التلبس ؟ ومن يرجع له صلاحية تقدير توفرها ؟

لقد عددت المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية الحالات التي يتحقق فيها التلبس بالجناية أو الجنحة التي يشترط أن يكون معاقبا عليها بالحبس[18]، ولقد سبق القول أنها حالات معدودة على سبيل الحصر لا يجب التوسع فيها، وإذا كان الأمر لا يثير كثير جدل في الجرائم الفورية، فإنه على عكس ذلك في الجرائم المستمرة، إذ قد تثور بعض الصعوبات المرتبطة بإثبات وجود حالة التلبس فيها باعتبارها تكون في الغالب مستترة، متوارية عن الأنظار، وفي غياب نص قانوني يثير المسألة، أفتى القضاء بأن الجريمة المستمرة الخفية يتحقق التلبس فيها عندما يتجلى تنفيذها من خلال قرينة بينة تدل عليها[19].

أما تقدير قيام حالة التلبس من عدمه فهو مبدئيا متروك لفطنة ضابط الشرطة القضائية[20]، فهو الذي يحدد توفر الظروف القانونية للقول بوجود حالة التلبس من عدمها، غير أن ذلك يتم تحت رقابة النيابة العامة حسب ما توحي بذلك مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 57 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه ” يجب على ضابط الشرطة القضائية الذي أشعر بحالة التلبس بجنحة أو جناية أن يخبر بها النيابة العامة فورا…”، غير أن السؤال المطروح ماذا لو تعذر هذا الاخبار لسبب من الأسباب ؟

إن جوهر حالة التلبس يقتضي الاستعجال في مباشرة إجراءات البحث، ولعل الرأي الصواب أن ضابط الشرطة القضائية يقوم بكافة الإجراءات الممنوحة له قانونا في إطار حالة التلبس ولو تعذر عليه هذا الإخبار مادام أنه يعلم جيدا أن الرقيب الحقيقي يبقى هو القانون، وبالتالي فهو يوقع إلتزاما على عاتقه يقتضي بعدم التصرف خارج المقتضيات القانونية المسموح بها تحت طائلة المساءلة[21].

وبمراجعة الفقرة الأخيرة من المادة 57 التي أضيفت بمقتضى تعديل 17 أكتوبر 2011 يثور التساؤل هل يباشر ضابط الشرطة القضائية الإجراءات المتعلقة بإجراءات الخبرات على مخلفات الجريمة بنفسه أم عليه التنسيق في ذلك مع النيابة العامة ؟ إن الظاهر من صياغة هذه الفقرة لا يشير من قريب أو بعيد إلى وجود مثل هذا التنسيق، غير أن الواقع العملي أثبت أن الطلبات المتعلقة بإجراء خبرات على الآثار المخلفة بمسرح الجريمة توجه إلى النيابة العامة بقصد التأشير عليها[22]، وهو توجه سليم باعتبار ما للنيابة العامة من إشراف عام على إجراءات البحث التمهيدي، وبقصد اكساب الأدلة والقرائن التي قد تسفر عنها نتائج هذه الخبرات، قوة ثبوتية باعتبارها بوشرت تحت إشراف جهة قضائية.

أما المادة 65 من قانون المسطرة الجنائية في فقرتها الأولى فإنها تتحدث عن منع ضابط الشرطة القضائية لأي شخص مفيد في التحريات من مغادرة مكان الجريمة إلى أن تنتهي تحرياته، وهي فقرة تثير بعض اللبس بخصوص وقت انتهاء هذه التحريات والمدة الزمنية التي قد تستغرقها، ففيما يذهب الأستاذ أحمد الخمليشي إلى أن المقصود بذلك يعني التحريات التي يجريها ضابط الشرطة القضائية في عين المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة، وليس إتمام تحريات البحث كله[23].

يرى الأستاذ عبد الواحد العلمي أن الأولى كان ” هو تحديد مدة للضابط حتى إذا هي انتهت، بارح الأشخاص مكان الجريمة، انتهى أم لم ينته من تحرياته “[24]، غير أن هذا القول صعب تحققه لاختلاف وقائع الجرائم من واحدة لأخرى، وبالتالي فإن المدة الزمنية التي قد تتطلبها بعض الجرائم قد تستغرق وقتا أطول من البعض الآخر، والعبرة تبقى بانتهاء الأبحاث والتحريات بعين المكان ومغادرته من طرف ضابط الشرطة القضائية نفسه أو أن يأذن لمن يشاء بالمغادرة قبله، فالأمر يبقى متروكا لتقديره الشخصي.

ولكن ماذا لو غادر مكان وقت الجريمة من سبق منعه من ذلك، نعتقد أن الأمر سوف يقوي حوله الشبهات فقط وقد يؤدي بضابط الشرطة القضائية إلى استدعائه بعد ذلك للاشتباه فيه[25]، خاصة وأن الفقرة الأخيرة الواردة في نفس المادة توحي صياغتها إلى أنها جزاء عن رفض الشخص الامتثال لعمليات التأكد من الهوية التي قد يطلبها ضابط الشرطة القضائية، وليس جزاء عن مغادرة مسرح الجريمة رغم المنع الصادر إليه وهو ما نفهمه من عبارة ” كل من خالف مقتضيات الفقرة السابقة ” والحال أن هناك فقرتان تتحدث الأولى عن المنع من مغادرة مكان الجريمة، والثانية عن عدم الامتثال لعمليات تحقيق الهوية، وكان حريا بالمشرع إسقاط الجزاء المنصوص في الفقرة الثالثة على الفقرتين الأولى والثانية معا، وذلك بالقول أن ” كل من خالف مقتضيات الفقرتين السابقتين ” عوض ” الفقرة السابقة “، ولما لم يفعل فإن الجزاء خاص بعدم الامتثال لتحقيق الهوية دون مغادرة مسرح الجريمة رغم المنع.

الفقرة الثانية : في المواد المتعلقة بتفتيش المنازل

 لقد أفرد المشرع المغربي للحديث عن إجراءات البحث التلبسي الخاصة بتفتيش المنازل المواد من 59 إلى 63 من قانون المسطرة الجنائية، ويلاحظ بأن المشرع الجنائي في هذه المواد اهتم بتفتيش المنازل أكثر من تفتيش الأشخاص، وأحاطها بمجموعة من الضمانات والقيود التي يتعين عدم الخروج عليها أثناء القيام بهذا الإجراء، ولعل مرد ذلك إلى ما يكتنف تفتيش المنازل من انتهاك واضح لحرمة المساكن فهي مستودع أسرار الإنسان وموضع أخص خصوصياته.

 إن أول ما يلاحظ على المادة 59 من قانون المسطرة الجنائية التي استهل بها المشرع الجنائي المواد المتعلقة بتفتيش المنازل، ما تثيره فقرتها الثانية التي نصت على أنه ” وفيما عدا حالات المس بأمن الدولة أو إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية، فلا يحق إلا لضابط الشرطة القضائية ومعه الأشخاص المشار إليهم في المادة 60 وحدهم الإطلاع على الأوراق أو المستندات قبل القيام بحجزها “، من بعض الغموض في الفهم، فمن هي يا ترى هذه الجهات التي يمكنها الإطلاع على نتائج التفتيش بالإضافة إلى ضابط الشرطة القضائية ورب المنزل أو من يمثله أو الشاهدين[26]، فهل تكون الإشارة هنا إلى بعض الجهات الأمنية التي خول لها المشرع – باعتبار ما لها من اختصاصات– الإطلاع على نتائج التفتيش في جرائم أمن الدولة أو الجرائم الإرهابية،

والتي لا صفة لها من الناحية القانونية للإطلاع على هذه الوثائق، باعتبارها لا تدخل ضمن زمرة ضباط الشرطة القضائية، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لضباط المخابرات العسكرية[27]، باعتبار ما قد يكون لهذه الوثائق أو الأشياء المحجوزة من تأثير على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي.

أما في حالة إجراء تفتيش في أماكن معدة لاستعمال مهني فإن ظاهر الفقرة الثالثة من نفس المادة – 59 – تشير إلى اتخاذ ضابط الشرطة القضائية لكافة التدابير لضمان احترام السر المهني حتى لا يكون مدعاة لإذاعته ونشره.

ولقد أشار الأستاذ أحمد الخمليشي إلى أن لضابط الشرطة القضائية أن يمنع حتى الشاهدين من الإطلاع على محتويات الأوراق والمستندات[28]، وهو ما يعني أنه إذا تعلق الأمر بتفتيش محل معد للاستعمال المهني على خلفية ارتكاب جريمة إرهابية أو جريمة أمن دولة فإنه لا يحق سوى لضابط الشرطة القضائية الإطلاع على فحوى نتائج التفتيش، وسندنا في ذلك أن المشرع لو أراد غير ذلك لنص عليه صراحة كما فعل في الفقرة الثانية من المادة 59 من قانون المسطرة الجنائية.

أما المادة 60 من قانون المسطرة الجنائية فأول ما يلاحظ بشأنها مسألة انتداب ضابط الشرطة القضائية لامرأة للقيام بتفتيش النساء اللواتي قد يتواجدن في المحل الخاضع لهذا الإجراء، فقد أثار بخصوصه بعض موظفي الأمن الوطني أنه يشكل صعوبة تعترض ضابط الشرطة القضائية خاصة في حالة خلو مصلحته من وظائف نسائية، وأمام صيغة الوجوب التي جاء عليها هذا المقتضى[29]، فإن ضابط الشرطة القضائية يجد نفسه مضطرا لإقناع أية امرأة للقيام بهذا الإجراء، وهو ما قد ينعكس سلبا على مقومات الحياد التام والموضوعية في إنجاز هذه المهمة من طرف امرأة عادية تم تسخيرها لهذا الغرض[30].

كما أن ما جاءت به المادة المذكورة في فقرتها الرابعة بخصوص إرغام أي شخص وجد بالمحل الخاضع لإجراء التفتيش للحضور أمام ضابط الشرطة القضائية بقصد الاستماع إليه بعد إذن من النيابة العامة، يثير إشكالية كيفية إيقاع هذا الإجبار في ظل غياب أي جزاء قانوني قد يوقع على الممتنع عن الحضور.

وفيما يخص المادة 62 خاصة فقرتها الثانية، فقد أخذ عليها أحد الحقوقيين المغاربة[31] أنها جردت المحلات التي يمارس فيها عمل أو نشاط ليلي بصفة اعتيادية كل حرمة واعتبر أن ذلك يشكل خرقا لمبدأ الشرعية، ونحن نرى أنه كان على المشرع الجنائي أن يفصل في ذلك بين هذه المحلات، حسب نوع أنشطتها وطبيعة الأعمال التي تمارس فيها، بحيث قد نتفهم وجهة نظره هذه بخصوص بعض المحلات التي قد تكون مرتعا لارتكاب الجرائم، أو سببا رئيسيا ومباشرا لارتكابها، كما هو الشأن بالنسبة للملاهي أو النوادي الليلية،

إلا أنه يصعب علينا مجاراته بخصوص المحلات التي تمارس فيها أنشطة ليلية تسدي فوائد اجتماعية كبرى للمجتمع ولا علاقة لها من قريب أو بعيد في الرفع من مستويات الجريمة، وهو ما دفع باللجنة التي شكلتها نقابة المحامين بالرباط من أجل مناقشة مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي تم اعتماده سنة 2002 والتي دخلت حيز التنفيذ سنة 2003 إلى التوصية بحذف هذه الفقرة من المادة 62 لكونها – حسب رأيها – لا تتماشى والحرمة اللازمة للمحلات ذات النشاط الليلي المعتاد[32]، ونحن وإن كنا نعضّد ونؤيد هذا الرأي مبدئيا إلا أننا نرى ضرورة التفصيل فيه على النحو المبين أعلاه، إذ أن بعض هذه المحلات لا حرمة لها أصلا، فأية حرمة لأماكن تعد قبلة للسكارى ووجهة للتبذير والتفقير، كالملاهي الليلية ونوادي القمار.

وبمراجعة المادة 63 من قانون المسطرة الجنائية يلاحظ من خلال صياغتها بأن المشرع الجنائي المغربي قد عقد العزم على أن يرجع للشرعية حرمتها، فأعلنها مدوية بأنه ” يعمل بالإجراءات المقررة في المواد 59 و60 و62 أعلاه تحت طائلة بطلان الإجراء المعيب وما قد يترتب عنه من إجراءات “، فظاهر المادة إذن لا يوحي بأي تهاون أو تقاعس من المشرع الجنائي المغربي، في اعتبار كل اخلال بأحكام تفتيش المنازل لن يلقى له جزاء سوى البطلان في الإجراء المعيب الذي أنجز على غير ما يقتضيه القانون، وعلى كافة الإجراءات المترتبة عنه،

إذ أن ما بني على باطل فهو باطل، وهو الاتجاه الذي صفق له العديد من الدارسين والقانونيين المغاربة[33] معتبرين أن المشرع المغربي حسنا فعل عندما تطرق للمسألة بنص صريح، متلافيا بذلك تضارب الآراء حول هذه المسألة، وبالرغم من ذلك فقد بقي التساؤل مفتوحا حول مدى قوة هذه المقتضيات المتعلقة بالتفتيش، ما إذا كانت من النظام العام، وبالتالي يمكن إثارتها أمام أية مرحلة من مراحل التقاضي ولو لأمل مرة أمام محكمة النقض، بل ويجوز لهيئة الحكم إثارتها من تلقاء نفسها، أم أن إجراء البطلان،

هو إجراء مطلوب يتعين إثارته قبل الانصراف إلى النظر في جوهر الدعوى، فلا تثيره المحكمة إلا بناء على طلب، بالنسبة للشراح المغاربة[34] فإن الأمر محسوم في أن مقتضيات التفتيش هي من النظام العام، غير أن القضاء المغربي لم يتخذ الموقف نفسه من هذه المقتضيات حيث جاء في قرار لمحكمة العدل الخاصة[35] ” أن الدفع ببطلان التفتيش أمام هيئة الحكم يلزم تقديمه في مذكرة كتابية مستقلة قبل الشروع في مناقشة جوهر القضية وإلا كان غير مقبول “. وهو موقف لا نعتقد أنه ينسجم وإرادة المشرع الصريحة بخصوص طبيعة المقتضيات المتعلقة بتفتيش المنازل والمنصوص عليها بوضوح في المادة 63 من قانون المسطرة الجنائية.

الفقرة الثالثة : في المواد المتعلقة بالحراسة النظرية

لقد عالج المشرع المغربي أحكام الوضع تحت الحراسة النظرية في حالة التلبس في المادتين 66 و67 من قانون المسطرة الجنائية، وأول ما يثير الانتباه بخصوص المادة 66 ما تم استحداثه فيها بمقتضى تعديل 17 أكتوبر 2011 في الفقرة الثانية والتي جاء فيها ” يتعين على ضابط الشرطة القضائية إخبار كل شخص تم القبض عليه أو وضع تحت الحراسة النظرية فورا وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في إلتزام الصمت “، وفيها يظهر جليا إرادة المشرع الجنائي المغربي في تجاوز الانتقادات الموجهة إليه على إثر التعديلات التي جاء بها قانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، محاولا بذلك تلميع صورته أمام الرأي العام الحقوقي والظهور بمظهر المحافظ على حقوق الإنسان والحريص على حرياته مستهديا في ذلك ببعض الإجراءات المنصوص عليها في بعض المواثيق الدولية المتعلقة بالمحاكمة العادلة[36].

وإلى حدود إشعار المشتبه فيه الموضوع رهن الحراسة النظرية بدواعي اعتقاله وبحقوقه، فإن الأمر لا يثير كبير إشكال رغم أن المشرع لم يحدد الحقوق الواجب إخبار المشتبه فيه بها، إلا أن ما يثير الكثير من اللبس والغموض هو مسألة حق الصمت، فالمشرع الجنائي لم يكلف نفسه عناء التنصيص عن طبيعة هذا الحق، ومداه، وكيفية الاستفادة منه، ومن أين يبتدأ وأين ينتهي، حتى يشكل نقلة إيجابية في مجال تكريس أولى معالم المحاكمة العادلة، وكأننا بالمشرع الجنائي يقرر حقا لا يريد له النفاذ، إذ بغير توضيح حقيقي لأحكام هذا الحق وحدود التمتع به، يجعله كعدمه.

وكان حريا بالمشرع الإجابة عن مجموعة من التساؤلات بهذا الخصوص : هل هو حق مطلق ؟ أم هو حق نسبي ؟ ماذا لو اختار المشتبه فيه الصمت طوال مدة الحراسة النظرية ؟ ما تأثير ذلك على المحضر ؟ وما هو التكييف القانوني لهذا الصمت ؟ أيعد رفضا للوقائع التي وضع من أجلها في الحراسة النظرية أم تسليما وإقرارا بها ؟ نحن لا نملك إجابات عن هذه الأسئلة ونسجل أن حق الصمت الذي جاء به المشرع الجنائي المغربي هو حق أفرغ من محتواه.

من بين أهم الأحكام التي اختار المشرع أن يزين بها المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية، مسألة الاتصال بمحام والتي شكلت استمرارا للفكرة الأولى المتمثلة في ما أوضحناه سابقا من سعيه إلى تلميع صورته الحقوقية، إلا أن ما جاء في الفقرة السادسة من المادة 66 السالفة الذكر يجعلنا نتساءل هل هناك فرق بين المساعدة القانونية ومسألة تعيين محامي، ونحن نعتقد أن مصطلح المساعدة القانونية وإن كان أعم وأشمل من مجرد إمكانية الاتصال بمحام، فإن واقع الأمر يشهد بأن الاستفادة بخدمات المحامي هي أقصى ما يمكن أن يحصل عليه المشتبه فيه الموضوع رهن الحراسة النظرية من مساعدة قانونية، غير أنه بمراجعة هذا الحق يتضح أنه لم يسلم كذلك من كثير من القيود أبى المشرع إلا أن يزرعها بين ثنايا أحكامه ليفرغه في الختام من محتواه.

لا شك أن الاتصال بالمحامي إبان فترة الحراسة النظرية هو مطلب ناضل من أجله الكثير من الحقوقيين واعتبروه تجسيدا حقيقيا لمقدمة إيجابية من أجل محاكمة جنائية عادلة، فمن أفضل من المحامي ليكون شاهد حق على بحث تمهيدي يحترم فيه ضابط الشرطة القضائية الحقوق والحريات، لكن أن يأتي هذا الاتصال قبل انتهاء نصف المدة الأصلية للحراسة النظرية مع إمكانية التأخير، ثم إعادة التأخير بطلب صريح من ضابط الشرطة القضائية في بعض الجرائم الخاصة، قد يؤدي لا محالة إلى إبقاء هذا الحق دون أي تأثير حقيقي، بل عن التأخير الثاني الذي يمكن أن يتجاوز 48 ساعة ابتداء من انصرام المدة الأصلية للحراسة النظرية يظهر أنه صيغ في شكل مرتبك مادام أن بعض الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من قانون المسطرة الجنائية

لا يمكن تمديد الحراسة النظرية فيها لغير 24 ساعة، وإذا أضفنا إليه منع المحامي من إخبار أي كان بما راج بينه وبين موكله قبل انصرام الحراسة النظرية دون استثناء النيابة العامة من ذلك بنص صريح يجعلنا نطرح تساؤلا محوريا ما الجدوى من هذا اللقاء؟ إذا لم يكن هو الحرص على سلامة إجراءات مسطرة البحث التمهيدي، ونحن نعتقد أنه وبالرغم من أن النص لا يسعف فإن النيابة العامة بوصفها الساهر الأول في دولة القانون على تحقيق التوازن بين حقوق الفرد وطمأنينة المجتمع، هي مستثناة من هذا المنع باعتبارها هي من يملك الحق في المتابعة عن هذه الإخلالات من جهة، وأنها صاحبة اليد الطولى في مراقبة سلامة إجراءات البحث التمهيدي الذي هو اختصاص أصيل من اختصاصاتها من جهة ثانية.

إن أكبر منغّص يكاد يقضّ مضجع ضباط الشرطة القضائية هو الإلتزام بالفترة الزمنية للوضع تحت الحراسة النظرية، ولعل ما يؤرقهم أكثر ما جاء في الفقرة الأولى من المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية ” …. فله أن يضعهم تحت الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز 48 ساعة تحسب ابتداء من ساعة توقيفهم… “،

وهنا تثور إشكالية ساعة التوقيف، فماذا لو تم في منطقة بعيدة عن المنطقة التي هو مطلوب فيها، بحيث قد يستغرق نقله إليها زمنا قد يتجاوز مدة الحراسة النظرية برمتها[37]، فمتى تبتدأ الحراسة النظرية في هذه الحالة ومتى تنتهي ؟ كما أن نقل المشتبه فيه الموضوع رهن الحراسة النظرية للمثول أمام النيابة العامة قد يستغرق وقتا بحيث تنتهي فترة الوضع تحت الحراسة النظرية قبل مثوله أمام هذه الجهة القضائية فما هو الجزاء ؟

مبدئيا سكت المشرع المغربي عن جزاء الإخلال بالمقتضيات القانونية للوضع تحت الحراسة النظرية خلاف موقفه الصريح والشجاع بخصوص الإخلال بالأحكام القانونية للتفتيش، وهو ما جعله محط انتقادات كثيرة وجهها إليه بعض شراح المسطرة الجنائية المغربية[38]، ولم يكن القضاء أحسن حالا، إذ لم يعتبر الإخلال بهذه المقتضيات من النظام العام حيث نص في القرار رقم 874 بتاريخ 17 مايو 1979 في الملف الجنائي عدد 71241 أن ” كل دفع يتعلق ببطلان المسطرة التي اجريت سابقا، وكل المسائل المتعين فصلها أوليا يجب أن تثار قبل كل دفاع في جوهر الدعوى، وإلا تصبح غير مقبولة لفوات أوانها، وأنه ليس بالملف ما يفيد أن الطاعن أو محاميه أثار أولا أي دفع يتعلق ببطلان المسطرة لعدم احترام مدة وضع الأضناء تحت الحراسة، ولعدم الإشارة إلى تاريخ تقديمهم … وإنما أثير ذلك بعد استنطاق المتهمين والاستماع إلى الشهود ومرافعة النيابة العامة، أي بعد فوات الأوان فتكون الوسيلة والحالة هذه غير مقبولة “[39].

وبالرجوع إلى الصيغة التي استعملها المشرع في الفصل 66 بخصوص الوضع تحت الحراسة النظرية وتمديدها يلاحظ أنها خالية من عبارات الوجوب : ” فله أن يضعهم تحت الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز 48 ساعة … “، وكذلك ” يمكن بإذن كتابي من النيابة العامة … تمديد مدة الحراسة… “، وهذه الجوازية انعكست على موقف الاجتهاد القضائي بخصوص عدم ترتيب جزاء البطلان على خرق مقتضياتها، وهو ما نستشفه صراحة من قرار محكمة النقض عدد 2461 الصادر بتاريخ 25 مارس 1986 ” لئن كان قانون المسطرة الجنائية قد حدد في الفصلين 68 و69 – من قانون المسطرة الجنائية القديم – منه مدة الوضع تحت الحراسة النظرية وعبر عن ذلك بصيغة الوجوب فإنه لا يرتب جزاء البطلان عن عدم احترام ذلك …

إذ قد يتعذر تقديم الشخص في الوقت المحدد لأسباب تتعلق بالبحث “، وهو توجه استقر عليه قضاء محكمة النقض والذي تبلور على إثر صدور قرار مشهور في الملف عدد 860 بتاريخ 14 يوليوز 1972 في القضية عدد 39047 جاء فيه ” أن القواعد المتعلقة بالوضع تحت الحراسة النظرية لم يجعلها القانون تحت طائلة البطلان، وعليه فلا يمكن أن يترتب عنها البطلان إلا إذا ثبت أن عدم مراعاتها جعل البحث عن الحقيقة وإثباتها مشوبين بعيوب في الجوهر الشيء الذي لم يقم ثوبته في هذه القضية، مما تكون معه الوسيلة في كل ما أثارته غير مبنية على أساس “[40].

وعودة إلى بدء فإن العمل القضائي جرى فيما يتعلق بوقت إيداع الشخص رهن الحراسة النظرية، إنما تكون العبرة فيه بلحظة وصوله إلى مخفر الشرطة القضائية وإيداعه الفعلي بالزنزانة وليس بلحظة التوقيف، أما المدة التي يستغرقها نقله لعرض على النيابة العامة فقد استقر القضاء على عدم إدخالها في حساب الفترة المحددة قانونا للحراسة النظرية[41].

أما المادة 67 من قانون المسطرة الجنائية فإن ما يلاحظ عليها أن فقراتها وإن استهلت جميعا بكلمة ” يجب ” إلا أن هذا الوجوب بقي عند حدود الكلمات دون أن يؤثر في بطلان الإجراءات، إذ أن المشرع استمر في عدم التنصيص على أي جزاء يمكن أن يترتب عن الإخلال بهذه المقتضيات، وهي إشارة التقطها القضاء لعدم ترتيب البطلان على ما قد تعرفه هذه الأحكام من اختلالات.

فبخصوص فقرات هذه المادة فقد عبر بعض المنتمين إلى جهاز الشرطة عن بعض الإشكالات التي تعترضهم في تطبيقاتها ومن ذلك إلزام ضباط الشرطة القضائية بالإشارة في المحضر إلى الأسباب الكامنة وراء رفض المشتبه فيه التوقيع أو الإبصام على محضر الاستماع إليه، إذ قد يكون الرفض لمجرد الانتقام[42]، ونحن نعتقد أن المشرع إنما نص على هذا المعطى ليبقى حجة على رافض التوقيع أو الإبصام إذا ما اختار إعطاء تبريرات عن تلك المدونة عليه في المحضر من طرف ضابط الشرطة القضائية.

لن نغادر هذه المادة حتى نسجل تحفظ هيئة المحامين بالرباط[43] على اكتفاء المشرع بإيراد عبارة ” يقوم ضابط الشرطة القضائية بإشعار عائلة المحتجز “، وطالبوا بتعديلها وذلك بضرورة التنصيص على هوية الشخص الذي يتم إشعاره مع بيان درجة قرابته تحت طائلة البطلان، ونحن لا نملك إلا أن ننضم إلى اقتراحهم هذا في عرضنا هذا لما فيه من التزام حقيقي يقع على عاتق ضابط الشرطة القضائية بإشعار ذوي المحتجز وإحاطتهم علما بوضعية قريبهم.

وخلاصة الكلام فإنه عندما تختل المباني تعتل المعاني، وصياغة القواعد القانونية – كما سبق الذكر – إذا افتقدت إلى الدقة والوضوح, تاهت مضامينها بين القراءات والشروح.

1 2الصفحة التالية
زر الذهاب إلى الأعلى