الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع المغربي

ثالثا: المشاركة

لا يخفى على أحد أن القضاء يعد شأنا مجتمعيا، ولم يكن شأنا مجتمعيا إلا لأنه يعد الساهر على حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات وأمنهم القضائي، وإذ يعد القضاء كما ذكر، فإن الكل يجب أن يبصم بصمته للنهوض بهذه المؤسسة الحقوقية مع احترام استقلالها عن باقي السلط الموجودة في الدولة.

والمشاركة حسب تصدير دستور 2011؛ تعد أحد مرتكزات الدولة الحديثة، وقد سعى الدستور إلى إشراك عدد كبير من الشخصيات خارج الجسم القضائي في مهمة تدبير الوضعيات المهنية للقضاة، وكذلك اشراكهم في مهام أخرى منها إعداد تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة وإصدار التوصيات الملائمة بشأنها، وإصدار آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة بطلب من مجموعة من الفاعلين السياسيين مع مراعاة مبدإ فصل السلط[8]؛ إن هؤلاء الشخصيات حسب الفصل 115 من الدستور؛ هم الوسيط ورئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان، وخمس شخصيات يعينها الملك مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة، والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون، من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى.

إن ما يجب ملاحظته؛ هو أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية لم يعد منغلقا على القضاة بل أصبحت عضويته مفتوحة أمام شخصيات حقوقية وأكاديمية ودينية، وهو ما لم يكن قبل دستور 2011، حيث كان دستور 1996 في الفصل 86 منه يجعل عضوية المجلس الأعلى للقضاء محصورة على القضاة وحدهم، إضافة إلى وزير العدل المسؤول السياسي الذي كان عضوا في المجلس ونائبا للملك الذي هو رئيس هذ المجلس. وإن هذا التنوع الموجود في أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينبع من دور هذا المجلس في ضمان استقلالية القضاء والتي هي حاجة اجتماعية وليس فقط للقضاة. فضلا عن أن إشراك شخصيات مستقلة في تركيبته يمنع من تحوله تبعا لانتخاب أعضائه من القضاة، إلى تغليب المصالح الفئوية النقابية للقضاة على المصالح العامة للمتقاضين[9].

………………….

وسعيا لتعزيز المشاركة في النهوض بوضعية القضاء ومنظومة العدالة، مكن القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة 110 منه هذا المجلس الأخير من تلقي تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، هذه التقارير التي تعدها جهات متعددة منها مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة المنصوص عليها في الدستور، والجمعيات المهنية للقضاة، وكذا جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا العدالة والمؤسسة بكيفية قانونية منذ ثلاث سنوات على الأقل. وحسب المادة 106 من القانون التنظيمي أعلاه، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قبل وضعه لمدونة الأخلاقيات القضائية يستشير في هذا الأمر الجمعيات المهنية للقضاة.

ومن أجل إيجاد حلول لصعوبات سير العمل بالمحاكم، نص مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي في المادة 18 منه على أنه تحدث على صعيد كل محكمة لجنة لبحث صعوبات سير العمل بها، ودراسة الحلول المناسبة لذلك، وتتضمن هذه اللجنة شخصيات من المسؤولين القضائيين والكاتب العام للمحكمة مقررا لها، ويتم إشراك هيئة المحامين في هذه اللجنة ممثلة في شخص نقيب الهيئة بدائرة نفوذ المحكمة.

رابعا: المساءلة

حسب الفصل الأول من الدستور، فإن النظام الدستوري للمملكة يقوم على مجموعة من الأسس منها ربط المسؤولية بالمحاسبة، وبما أن القضاء يعد من المرافق العمومية، فإن هذه المرافق بناء على الفصل 154 من الدستور؛ تخضع لمعايير منها المحاسبة، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره مؤسسة تتمتع بالاستقلال المالي والإداري وتضع الدولة رهن إشارته الوسائل المادية والبشرية اللازمة ليقوم بمهامه المسنودة له بموجب الدستور والقانون، فإن أعمال هذا المجلس تكون خاضعة لمراقبة من يرأسه وهو الملك[10]، ولا يخفى على مهتم بالشأن القضائي أن أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية يؤدون قبل مباشرتهم لمهامهم، القسم بين يدي الملك على أن يقوموا بمهامهم بتجرد وإخلاص وأمانة ونزاهة، والحرص التام على استقلال القضاء، وكتمان سر المداولات والتصويت، وألا يتخذوا أي موقف علني في أي مسألة من المسائل التي تدخل في نطاق اختصاصات المجلس[11].

ولتفعيل مراقبة الملك ومحاسبته للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإن الرئيس المنتدب لهذا المجلس حسب المادة 61 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ يرفع إلى الملك تقريرا عاما بشأن نشاط المجلس عند نهاية كل دورة، ووفقا للمادة 109 من نفس القانون التنظيمي، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يرفع كذلك للملك تقريرا سنويا حول حصيلة عمله وآفاقه المستقبلية. وتحال نسخة من هذا التقرير إلى رئيس الحكومة قبل نشره بالجريدة الرسمية.

………………

وبالنسبة للنيابة العامة، فإن استقلالها لا يجعلها في منأى عن المسؤولية، فهي مسؤولة أمام الملك الذي يعين رئيسها، وأمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فحسب المادة 110 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإن هذا المجلس يتلقى تقارير الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، قبل عرضه ومناقشته أمام اللجنتين المكلفتين بالتشريع بمجلسي البرلمان.

أما القضاة، فباعتبار وظيفتهم الحساسة والتي لها علاقة وطيدة بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، فإنهم مسؤولون أمام المجلس الأعلى للسلطة في كل الحالات التي يرتكبون فيها مخالفات مهنية.

ومن المستجدات حسب النظام الأساسي الجديد للقضاة؛ تكييف المشرع للإخلال بالالتزامات الواردة في اليمين التي يؤديها القاضي عند تعيينه لأول مرة في السلك القضائي، حيث يعتبر الاخلال بالالتزامات المتحدث عنها إخلالا بالواجبات المهنية، وبمقارنة اليمين التي يؤديها القاضي طبقا للنظام الأساسي للقضاة الجديد باليمين التي كان يؤديها بموجب النظام القديم لسنة 1974؛ يلاحظ أن بعض الالتزامات الواردة في اليمين الأولى مستجدة، حيث بموجب النظام الأساسي للقضاة الجديد يلتزم القاضي بقيامه بمهامه بحياد وتجرد وتفان، وبحفاظه على صفات الوقار والكرامة، وبالتطبيق العادل للقانون، وكلها التزامات لا نجد لها أثرا في اليمين المنصوص عليها في النظام الأساسي لسنة 1974[12].

ويمكن توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ جسيما، وقد سبق لنا في أحد مقالاتنا التأكيد على أن توقيف القاضي حال متابعته جنائيا يعد انتهاكا لقرينة البراءة المضمونة دستوريا وبموجب قانون المسطرة الجنائية.

وكأهم مستجد جاء به النظام الأساسي للقضاة؛ التنصيص على الأخطاء الجسيمة مع حصرها، والقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة قبل إحالته على المحكمة الدستورية جعل الأخطاء الجسيمة على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما اعتبرته المحكمة الدستورية غير دستوري حيث جاء في قرارها ما يلي: ” وحيث إنه، اعتبارا للعواقب الوخيمة المترتبة عن توقيف القاضي ومراعاة لجسامة مسؤولياته، فإن على المشرع أن يحدد الحالات التي يعتبرها مكونة للخطأ الجسيم، وأن يستعمل في ذلك عبارات دقيقة وواضحة لا يعتريها لبس أو إبهام. وحيث إنه تأسيسا على كل ذلك، فإن ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 97 من النظام الأساسي للقضاة من أنه يعد خطأ جسيما “بصفة خاصة”، يوحي بوجود حالات أخرى يمكن أن تعد خطأ جسيما غير تلك المذكورة صراحة في هذه المادة، مما يجعل عبارة “بصفة خاصة” مخالفة للدستور.

هكذا، فإن عدد الأخطاء الجسيمة التي إن ارتكب القاضي إحداها يمكن توقيفه حالا عن ممارسة مهامه حسب المادة 97 أعلاه؛ هو تسعة أخطاء جسيمة، نذكر منها فقط: الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف؛ الخرق الخطير لقانون الموضوع؛ الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو إنجاز مسطرة الحكم أو في القضايا أثناء ممارسته لمهامه القضائية.

وطبقا للمادة 98 من النظام الأساسي للقضاة؛ فإن متابعة القاضي جنائيا لا تحول دون متابعته تأديببا.

الإحالات :

[1] أبو بكر الأزدي. جمهرة اللغة ج 2 ص 831، زين الدين الحنفي الرازي. مختار الصحاح ص 308. المعجم الوسيط ج2 ص 915.

[2] المادة 9 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

[3] أنظر القيمة الثالثة من مبادئ بانغالور للسلوك القضائي.

[4] التعليق على مبادئ بانغالور للسلوك القضائي: مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ص 102

[5] التعليق على مبادئ بانغالور للسلوك القضائي ص 104-105

[6] العقوبات من الدرجة الأولى: الإنذار-التوبيخ -التأخير عن الترقية من رتبة إلى رتبة أعلى لمدة لا تتجاوز سنتين-الحذف من لائحة الأهلية لمدة لا تتجاوز سنتين. يمكن أن تكون عقوبات هذه الدرجة مصحوبة بالنقل التلقائي.

العقوبات من الدرجة الثانية: الاقصاء المؤقت عن العمل لمدة لا تتجاوز ستة أشهر مع الحرمان من أي أجر باستثناء التعويضات العائلية-الانزال بدرجة واحدة. تكون هاتان العقوبتان مصحوبتين بالنقل التلقائي.

[7] المادة 9 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

[8] أنظر المادة 108 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والفصل 113 من الدستور.

[9] المفكرة القانونية، الإصلاحات القضائية في المغرب وتونس بعد 2011. ص 15.

[10] أنظر الفصلان 56 و115 من الدستور.

[11] المادة 9 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

[12] ينص الفصل 18 من النظام الأساسي لرجال القضاء لسنة 1974 على ما يلي: “يؤدي كل قاض عند تعيينه لأول مرة وقبل الشروع في مهامه اليمين التالية: أقسم بالله العظيم أن أقوم بمهامي بوفاء وإخلاص وأن أحافظ كل المحافظة على سر المداولات وأسلك في ذلك كله مسلك القاضي النزيه المخلص”.

الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع الحكامة الجيدة للمرفق القضائي في التشريع
الصفحة السابقة 1 2
زر الذهاب إلى الأعلى